الحمدُ لِلَّهِ ربِّ العالَمِينَ..جَعَلَ لنا الإسلامَ شِرْعَةً ومِنْهاجاً وهدانا إلى الصراطِ المستقيمِ صراطِ اللهِ الذي لهُ ما في السماواتِ وما في الأرضِ أَحْمَدُهُ تبارَكَ وتعالى أنْ جَعَلَ لنا صراطاً مستقيماً نَسِيرُ عليهِ ولمْ يَتْرُكْنا لِضلالاتِ الهوى والشيطانِ ؛ فالحمدُ لِلَّهِ ربِّ العالمينَ..وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ الحيُّ القيومُ مالكُ الْمُلْكِ ذو الجلالِ والإكرامِ القائمُ على كلِّ نفسٍ بما كَسَبَتْ ؛ وأشهدُ أنَّ سيدَنا محمداً عبدُهُ ورسولُهُ النبيُّ المصطفى والرسولُ المجتبى خيرُ الْبَشَرِ سيدُ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ الشافعُ الْمُشَفَّعُ..اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ عليهِ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ أجمعينَ.. أمَّا بعدُ..
يقولُ اللهُ تبارَكَ وتعالى في سورةِ الحجرات{يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجِهَـلَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَـدِمِينَ * وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مّـِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَـكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَـنَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَـــكَ هُمُ الرَّشِدُونَ * فَضْلاً مّـِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَإِن طَاــفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَـهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَـتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِىءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون}.. نَزَلَتْ سورةُ الْحُجُراتِ لِتُبَيِّنَ لنا بعضاً مِنْ مكارمِ الأخلاقِ..ومكارمُ الأخلاقِ في هذهِ السورةِ منها ما يَتَعَلَّقُ بجانبِ اللهِ تبارَكَ وتعالى{يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تُقَدّمُوا بَيْنَ يَدَىِ اللَّهِ وَرَسُولِه}..ومنها ما يَتَعَلَّقُ بجانبِ
الرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلَّم{يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيّ} إلى آخِرِ الآياتِ..ومنها ما يَتَعَلَّقُ بالفُسّاقِ كما جاءَ في الآياتِ السابقةِ..ومنها ما يَتَعَلَّقُ بالمؤمنِ الحاضرِ بينَنا{يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّـِن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مّـِنْهُمْ} إلى آخِرِ الآياتِ.. ومنها ما يَتَعَلَّقُ بالمؤمنِ الغائب{يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مّـِنَ الظَّنّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنّ إِثْم} إلى آخِرِ الآياتِ..
كلُّ هذهِ الْقِيَمِ والأخلاقِ قدِ احتوتْها هذهِ السورةُ ، وهيَ قيمٌ وأخلاقٌ قدْ أَمَرَنا اللهُ تعالى بها لِنُطَبِّقَها في حياتِنا العمليةِ ، فَلَوْ أنَّنا اتَّبَعْناها وأَخَذْنا بها لَصَلُحَتْ قلوبُنا ولَصَلُحَ حالُ المجتمَعِ اليومَ..
ولْنَتَكَلَّمْ عنْ نقطةٍ واحدةٍ مِنْ تلكَ التعليماتِ التي احتوَتْها هذهِ السورةُ ألا وهيَ الإصلاحُ بينَ المؤمنين{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون}..ولْنَبْدَأْ بِذِكْرِ ثلاثةِ أحاديثٍ لِرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلَّمَ أَنْقُلُها بِنَصَّها..
فَعَنْ سيدِنا أَنَسِ بنِ مالكٍ ـ رضيَ اللهُ عنه ـ قال :" بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ إِذْ رَأَيْنَاهُ يَضْحَكُ حَتَّى بَدَتْ ثَنَايَاهُ ، فَقَالَ لهُ عُمَرُ : " مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ بَأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي." فَقَاَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم{رَجُلاَنِ مِنْ أُمَّتِي جَثَيَا بَيْنَ يَدَيْ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا :" يَا رَبِّ..خُذْ لِي مَظْلَمَتِي مِنْ أَخِي." فَقَالَ اللَّهُ :" كَيْفَ تَصْنَعُ بِأَخِيكَ وَلَمْ يَبْقَ مِنْ حَسَنَاتِهِ شَيْءٌ." فَقَالَ :" يَا رَبِّ..فَلْيَحْمِلْ مِنْ أَوْزَارِي." وَفَاضَتْ عَيْنا رَسُولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبُكَاءِ." فاضَتْ عينا رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلَّمَ بالبكاءِ لأنَّهُ يومٌ شديدٌ ، يومٌ كألفِ سنةٍ ، يومٌ يَتَمَنَّى فيهِ كلُّ الناسِ حتى السعداءُ أنْ يَنْتَهِيَ ولوْ إلى النارِ مِنْ شدَّةِ وهَوْلِ
ما يَرَوْنَ..فاضتْ عينا رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلَّمَ لأنَّهُ يرى هذهِ المواقفَ ، ولِذلكَ يقولُ صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلَّم{لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرا}..يقولُ سيدُنا أنسُ بنُ مالكٍ راوي الحديث : " وَفَاضَتْ عَيْنُ رَسُولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبُكَاءِ ، ثُمَّ قَال{إِنَّ ذَلِكَ لَيَوْمٌ عَظِيمٌ يَحْتَاجُ النَّاسُ فِيهِ أَنْ يُحْمَلَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ..فَقَالَ اللَّهُ لِلطَّالِبِ : " ارْفَعْ بَصَرَكَ." فَرَفَعَ بَصَرَهُ فَقَالَ :" يَا رَبِّ..أَرَى مَدَائِنَ مِنْ ذَهَبٍ وَقُصُوراً مِنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلَةً بِاللُّؤْلُؤِ..لأَيِّ نَبِيٍّ هَذَا ؟ لأَيِّ صِدِّيقٍ هَذَا ؟ لأَيِّ شَهِيدٍ هَذَا ؟ " فَقَالَ اللَّهُ :" لِمَنْ أَعْطَى الثَّمَنَ." فَقَالَ :" يَا رَبِّ..وَمَنْ يَمْلِكُ ذَلِكَ ؟ " فَقَالَ اللَّهُ :" أَنْتَ." فَقَالَ :" بِمَاذَا يَا رَبِّ ؟ " فَقَالَ اللَّهُ :" بِعَفْوِكَ عَنْ أَخِيكَ." فَقَالَ :" يَا رَبِّ..إِنِّي قَدْ عَفَوْتُ عَنْهُ." فَقَالَ اللهُ تَعَالَى :" خُذْ بِيَدِ أَخِيكَ وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّة." فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِك {اِتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ يُصْلِحُ بَيْنَ الْمُسْلِمِين}..
أمّا الحديثُ الثاني فَعَنْ سيدِنا أبي هريرةَ ـ رضيَ اللهُ عنه ـ عَنِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلَّمَ قال{إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ تَنَافَسُوا وَلاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَدَابَرُوا ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَاناً كَمَا أَمَرَكُمْ..الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ وَلاَ يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَا هُنَا ـ وَأَشَارَ إلى صدرِهِ الشريفِ ثلاثَ مرّات ـ بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ..كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ..إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ وَلاَ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ}..
وقالَ صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلَّم{تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الإِثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيَغْفِرُ اللَّهُ لِكُلِّ عَبْدٍ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئاً إِلاَّ رَجُلاً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ :" أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا."}..
يَتَبَيَّنُ لنا مِمَّا سَبَقَ مِنْ كتابِ اللهِ تعالى وأحاديثِ رسولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلَّمَ مدى أهميةِ العلاقةِ التي يَجِبُ أنْ تَرْبطَ بينَ المؤمنينَ والمسلمينَ في كلِّ مكانٍ لأنَّ المسلمَ أخو المسلمِ..
يقولُ اللهُ تعالى{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة} ولمْ يَقُلْ سبحانَهُ وتعالى (إنَّما المؤمنونَ إخوانٌ) لأنَّ الإخوانَ إنَّما تُطْلَقُ على أُخُوَّةِ الصداقةِ والمحبةِ أمَّا الإخوةُ فعلى أُخُوَّةُ النَّسَبِ ، ولقدْ قالَ العلماءُ بأنَّ أُخُوَّةَ الإسلامِ أَشَدُّ وأَقْوَى مِنْ أُخُوَّةِ النَّسَبِ..أرأيتَ لوْ أنَّ لكَ أخاً أوْ أمّاً أوْ أباً كافراً باللهِ أوْ برسولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ؛ هلْ يَجُوزُ لِهذا الأبِ أوْ لهذِهِ الأمِّ أوْ لهذا الأخِ أنْ يَرِثَ مِنْ مالِكَ إذا أنتَ مِتَّ !؟ لا..بلْ يَحْرُمُ عليهِ ذلكَ ، إنَّما يَرِثُكَ أخوكَ في الدِّينِ ؛ ولِذلكَ فإنَّ أُخُوَّةَ الإسلامِ أَقْوَى مِنْ أُخُوَّةِ النَّسَب.. ولَرُبَّما سألَ سائلٌ :" فلِماذا إذاً لا نَتَوارَثُ بأخوَّةِ الإسلامِ ؟ " أَقُولُ : لأنَّ الإسلامَ جَمَعَ بينَ الأُخُوَّتَيْنِ أُخُوَّةِ النَّسَبِ وأُخُوَّةِ الإسلامِ..
يقولُ تعالى{وَإِن طَاــفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} تُشْعِرُنا هذهِ الآيةُ بأنَّهُ يَجِبُ أنْ لا يكونَ بينَ المؤمنينَ اقتتالٌ لأنَّ وصفَ المؤمنينَ كما قالَ تعالى {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَـفِرِين} فليسَ لِلشيطانِ سبيلٌ لِلدخولِ بينَهُمْ ، فإنْ دَخَلَ الشيطانُ بينَهُمُ اتَّبَعُوا أمرَ اللهِ تعالى وامْتَثَلُوا حُكْمَهُ ورَجَعُوا فيما اختلَفُوا فيهِ إلى حُكْمِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلَّمَ وأطاعوهُ عملاً بأمرِ اللهِ تعالى في أنْ نَرْجِعَ إليهِ فيما شَجَرَ بينَنا بلْ وفي كلِّ أمرٍ مِنْ أمورِ حياتِنا صغيرِها وكبيرِها..
وقدْ أَمَرَنا اللهُ تعالى بالإصلاحِ بينَ المؤمنينَ حتى لا تَتَّسِعَ هُوَّةُ الخلافِ بينَهما ؛ وحتى لا يُصْبِحَ ذلكَ الخلافُ ناراً تأكلُ كلَّ أخضرَ ويابسٍ وحتى نُفَوِّتَ الفرصةَ على مُؤَجِّجِي نيرانِ الْفِتَنِ ؛ وحتَّى يَرْحَمَنا اللهُ
تعالى كما وَعَدَنا إنْ نحنُ قُمْنا بالإصلاحِ بينَهما..
ولِذلكَ فإنَّ مِنْ فروضِ الكفايةِ على المسلمينَ أنْ يَكونَ فيهمْ مَنْ يستطيعُ القيامَ بالإصلاحِ بينَ الناسِ ، ولكنْ لا بُدَّ أنْ تَتَوَفَّرَ في ذلكَ الذي يَقُومُ بهذا الدورِ شروطٌ تُؤَهِّلُهُ لِلقيامِ بهذا الدورِ ، فَلَرُبَّما وَسَّعَ امرؤٌ هُوَّةَ الخلافِ بينَ الْمُتخاصِمَيْنِ وأَزادَها وهوَ لا يَدْرِي على الرغمِ مِنْ أنَّهُ يحاوِلُ الإصلاحَ بينَهما..
يقولُ اللهُ تعالى{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون}..
يقولُ اللهُ تبارَكَ وتعالى في سورةِ الحجرات{يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجِهَـلَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَـدِمِينَ * وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مّـِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَـكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَـنَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَـــكَ هُمُ الرَّشِدُونَ * فَضْلاً مّـِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَإِن طَاــفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَـهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَـتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِىءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون}.. نَزَلَتْ سورةُ الْحُجُراتِ لِتُبَيِّنَ لنا بعضاً مِنْ مكارمِ الأخلاقِ..ومكارمُ الأخلاقِ في هذهِ السورةِ منها ما يَتَعَلَّقُ بجانبِ اللهِ تبارَكَ وتعالى{يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تُقَدّمُوا بَيْنَ يَدَىِ اللَّهِ وَرَسُولِه}..ومنها ما يَتَعَلَّقُ بجانبِ
الرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلَّم{يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيّ} إلى آخِرِ الآياتِ..ومنها ما يَتَعَلَّقُ بالفُسّاقِ كما جاءَ في الآياتِ السابقةِ..ومنها ما يَتَعَلَّقُ بالمؤمنِ الحاضرِ بينَنا{يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّـِن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مّـِنْهُمْ} إلى آخِرِ الآياتِ.. ومنها ما يَتَعَلَّقُ بالمؤمنِ الغائب{يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مّـِنَ الظَّنّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنّ إِثْم} إلى آخِرِ الآياتِ..
كلُّ هذهِ الْقِيَمِ والأخلاقِ قدِ احتوتْها هذهِ السورةُ ، وهيَ قيمٌ وأخلاقٌ قدْ أَمَرَنا اللهُ تعالى بها لِنُطَبِّقَها في حياتِنا العمليةِ ، فَلَوْ أنَّنا اتَّبَعْناها وأَخَذْنا بها لَصَلُحَتْ قلوبُنا ولَصَلُحَ حالُ المجتمَعِ اليومَ..
ولْنَتَكَلَّمْ عنْ نقطةٍ واحدةٍ مِنْ تلكَ التعليماتِ التي احتوَتْها هذهِ السورةُ ألا وهيَ الإصلاحُ بينَ المؤمنين{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون}..ولْنَبْدَأْ بِذِكْرِ ثلاثةِ أحاديثٍ لِرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلَّمَ أَنْقُلُها بِنَصَّها..
فَعَنْ سيدِنا أَنَسِ بنِ مالكٍ ـ رضيَ اللهُ عنه ـ قال :" بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ إِذْ رَأَيْنَاهُ يَضْحَكُ حَتَّى بَدَتْ ثَنَايَاهُ ، فَقَالَ لهُ عُمَرُ : " مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ بَأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي." فَقَاَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم{رَجُلاَنِ مِنْ أُمَّتِي جَثَيَا بَيْنَ يَدَيْ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا :" يَا رَبِّ..خُذْ لِي مَظْلَمَتِي مِنْ أَخِي." فَقَالَ اللَّهُ :" كَيْفَ تَصْنَعُ بِأَخِيكَ وَلَمْ يَبْقَ مِنْ حَسَنَاتِهِ شَيْءٌ." فَقَالَ :" يَا رَبِّ..فَلْيَحْمِلْ مِنْ أَوْزَارِي." وَفَاضَتْ عَيْنا رَسُولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبُكَاءِ." فاضَتْ عينا رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلَّمَ بالبكاءِ لأنَّهُ يومٌ شديدٌ ، يومٌ كألفِ سنةٍ ، يومٌ يَتَمَنَّى فيهِ كلُّ الناسِ حتى السعداءُ أنْ يَنْتَهِيَ ولوْ إلى النارِ مِنْ شدَّةِ وهَوْلِ
ما يَرَوْنَ..فاضتْ عينا رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلَّمَ لأنَّهُ يرى هذهِ المواقفَ ، ولِذلكَ يقولُ صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلَّم{لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرا}..يقولُ سيدُنا أنسُ بنُ مالكٍ راوي الحديث : " وَفَاضَتْ عَيْنُ رَسُولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبُكَاءِ ، ثُمَّ قَال{إِنَّ ذَلِكَ لَيَوْمٌ عَظِيمٌ يَحْتَاجُ النَّاسُ فِيهِ أَنْ يُحْمَلَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ..فَقَالَ اللَّهُ لِلطَّالِبِ : " ارْفَعْ بَصَرَكَ." فَرَفَعَ بَصَرَهُ فَقَالَ :" يَا رَبِّ..أَرَى مَدَائِنَ مِنْ ذَهَبٍ وَقُصُوراً مِنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلَةً بِاللُّؤْلُؤِ..لأَيِّ نَبِيٍّ هَذَا ؟ لأَيِّ صِدِّيقٍ هَذَا ؟ لأَيِّ شَهِيدٍ هَذَا ؟ " فَقَالَ اللَّهُ :" لِمَنْ أَعْطَى الثَّمَنَ." فَقَالَ :" يَا رَبِّ..وَمَنْ يَمْلِكُ ذَلِكَ ؟ " فَقَالَ اللَّهُ :" أَنْتَ." فَقَالَ :" بِمَاذَا يَا رَبِّ ؟ " فَقَالَ اللَّهُ :" بِعَفْوِكَ عَنْ أَخِيكَ." فَقَالَ :" يَا رَبِّ..إِنِّي قَدْ عَفَوْتُ عَنْهُ." فَقَالَ اللهُ تَعَالَى :" خُذْ بِيَدِ أَخِيكَ وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّة." فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِك {اِتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ يُصْلِحُ بَيْنَ الْمُسْلِمِين}..
أمّا الحديثُ الثاني فَعَنْ سيدِنا أبي هريرةَ ـ رضيَ اللهُ عنه ـ عَنِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلَّمَ قال{إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ تَنَافَسُوا وَلاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَدَابَرُوا ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَاناً كَمَا أَمَرَكُمْ..الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ وَلاَ يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَا هُنَا ـ وَأَشَارَ إلى صدرِهِ الشريفِ ثلاثَ مرّات ـ بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ..كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ..إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ وَلاَ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ}..
وقالَ صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلَّم{تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الإِثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيَغْفِرُ اللَّهُ لِكُلِّ عَبْدٍ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئاً إِلاَّ رَجُلاً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ :" أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا."}..
يَتَبَيَّنُ لنا مِمَّا سَبَقَ مِنْ كتابِ اللهِ تعالى وأحاديثِ رسولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلَّمَ مدى أهميةِ العلاقةِ التي يَجِبُ أنْ تَرْبطَ بينَ المؤمنينَ والمسلمينَ في كلِّ مكانٍ لأنَّ المسلمَ أخو المسلمِ..
يقولُ اللهُ تعالى{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة} ولمْ يَقُلْ سبحانَهُ وتعالى (إنَّما المؤمنونَ إخوانٌ) لأنَّ الإخوانَ إنَّما تُطْلَقُ على أُخُوَّةِ الصداقةِ والمحبةِ أمَّا الإخوةُ فعلى أُخُوَّةُ النَّسَبِ ، ولقدْ قالَ العلماءُ بأنَّ أُخُوَّةَ الإسلامِ أَشَدُّ وأَقْوَى مِنْ أُخُوَّةِ النَّسَبِ..أرأيتَ لوْ أنَّ لكَ أخاً أوْ أمّاً أوْ أباً كافراً باللهِ أوْ برسولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ؛ هلْ يَجُوزُ لِهذا الأبِ أوْ لهذِهِ الأمِّ أوْ لهذا الأخِ أنْ يَرِثَ مِنْ مالِكَ إذا أنتَ مِتَّ !؟ لا..بلْ يَحْرُمُ عليهِ ذلكَ ، إنَّما يَرِثُكَ أخوكَ في الدِّينِ ؛ ولِذلكَ فإنَّ أُخُوَّةَ الإسلامِ أَقْوَى مِنْ أُخُوَّةِ النَّسَب.. ولَرُبَّما سألَ سائلٌ :" فلِماذا إذاً لا نَتَوارَثُ بأخوَّةِ الإسلامِ ؟ " أَقُولُ : لأنَّ الإسلامَ جَمَعَ بينَ الأُخُوَّتَيْنِ أُخُوَّةِ النَّسَبِ وأُخُوَّةِ الإسلامِ..
يقولُ تعالى{وَإِن طَاــفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} تُشْعِرُنا هذهِ الآيةُ بأنَّهُ يَجِبُ أنْ لا يكونَ بينَ المؤمنينَ اقتتالٌ لأنَّ وصفَ المؤمنينَ كما قالَ تعالى {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَـفِرِين} فليسَ لِلشيطانِ سبيلٌ لِلدخولِ بينَهُمْ ، فإنْ دَخَلَ الشيطانُ بينَهُمُ اتَّبَعُوا أمرَ اللهِ تعالى وامْتَثَلُوا حُكْمَهُ ورَجَعُوا فيما اختلَفُوا فيهِ إلى حُكْمِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلَّمَ وأطاعوهُ عملاً بأمرِ اللهِ تعالى في أنْ نَرْجِعَ إليهِ فيما شَجَرَ بينَنا بلْ وفي كلِّ أمرٍ مِنْ أمورِ حياتِنا صغيرِها وكبيرِها..
وقدْ أَمَرَنا اللهُ تعالى بالإصلاحِ بينَ المؤمنينَ حتى لا تَتَّسِعَ هُوَّةُ الخلافِ بينَهما ؛ وحتى لا يُصْبِحَ ذلكَ الخلافُ ناراً تأكلُ كلَّ أخضرَ ويابسٍ وحتى نُفَوِّتَ الفرصةَ على مُؤَجِّجِي نيرانِ الْفِتَنِ ؛ وحتَّى يَرْحَمَنا اللهُ
تعالى كما وَعَدَنا إنْ نحنُ قُمْنا بالإصلاحِ بينَهما..
ولِذلكَ فإنَّ مِنْ فروضِ الكفايةِ على المسلمينَ أنْ يَكونَ فيهمْ مَنْ يستطيعُ القيامَ بالإصلاحِ بينَ الناسِ ، ولكنْ لا بُدَّ أنْ تَتَوَفَّرَ في ذلكَ الذي يَقُومُ بهذا الدورِ شروطٌ تُؤَهِّلُهُ لِلقيامِ بهذا الدورِ ، فَلَرُبَّما وَسَّعَ امرؤٌ هُوَّةَ الخلافِ بينَ الْمُتخاصِمَيْنِ وأَزادَها وهوَ لا يَدْرِي على الرغمِ مِنْ أنَّهُ يحاوِلُ الإصلاحَ بينَهما..
يقولُ اللهُ تعالى{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون}..