الذكر : هو حضور الشيء .
(. . . قيل الذكر ذكران : ذكر بالقلب، وذكر باللسان، وكل واحد منها ضربان، ذكر عن نسيان، وذكر لا عن نسيان، بل عن إدامة حفظ..) .
فذكر الذاكرين لله هو الاحساس بوجوده، وبدوام حضوره معهم تارة، أو تذكره بعد النسيان، والشعور بوجوده تارة أخرى .
والذاكرون الحافظون هم أولئك المستهامون بحب الله، الممتلئة نفوسهم بحقيقة وجوده، والوَلِهَة بجمال صفاته، الخاشعة لجلال آثاره، المسبحة بحمده، المقدسة له، والعاكفة على طاعته، فهم بين دائم الذكر لايغفل وذاكر اذا غفل لم يتماد بغفلته: إنَّ الّذين اتّقوا اذا مَسَّهُم طائِفٌ مِن الشَّيطانِ تَذكّروا فإذا هُم مُبصِرون .(الاعراف/201) .
اولئك الذين انساهم حب اللهأنفسهم فتوجه كل وعي وشعور فيهم نحو الاحد المعبود، فصار هذا الحب عطاء في نفس المحب، واستجابة في قلبه، لذا كان ضربا من ضروب العبادة، ومنبعاً ثراً من منابع التوجه والشوق العميق إلى الله .
ولايمكن للروح الانساني ان يطفح بالحب، أو يواصل مسيرة القرب هذه إلاّ بعد أن تتكشف له حقائق المعرفة الربانية، وتتجلى أمامه عظمة الصفات، وجمال الذات الالهية، فمع هذه المعرفة فقط يبدأ وعيه العقلي بالتفتح، وإحساسه الروحي بالتذوق ونفسه بالانشراح والتلقي . الّذينَ يَذكُرونَ الله قِياماً وقُعوداً وعلى جُنُوبِهِم ويتَفَكَّرونَ في خلق السَّماواتِ والارض رَبَّنا ما خَلقتَ هذا باطِلاً سُبحانَكَ فَقِنا عذابَ النَّار (آل عمران/191) فأولئك هم الذاكرون ، الذين لم يكن ذكرهم لله مجرد لقلقة لسان، ولا ترداد عبارات، أو تدافع ألفاظ تولد على شفاههم خاوية ميتة بل ذكروا الله عن تفكر ومعرفة، ووعي لمضامين الذكر، وتدبر لمداليل التقديس والتسبيح والثناء، فانكشفت لهم حقائق الايمان وتجلت أمامهم مظاهر العظمة الربانية، فصار ذكرهم تعبيراً صادقاً عن وعيهم الكامل لارتباطهم وتعلقهم بالله تعالى وإحساسهم بالافتقار والحاجة إلى عظيم صفاته وكمال ذاته، لذا فهم لا يزالون يثنون على هذه العظمة، ويهيمون حباً واعجاباً بتلك الصفات، متنعمين بتجربة هذا الحب والقرب، مدركين أن ما يسبحون فيه من غمرات الحب، وما يستغرق ذواتهم من أنوار القرب، وما تحمله نفوسهم من حب ومعرفة ليس إلاّ القبس من فيض سرمدي، وإلاّ الهمس من عالم الالقاء والفيض الابدي، الفيض الذي تفتحت آفاقهم المحدودة لاستقباله وقصرت وسائلهم عن الوصول إلى سعته، فلم تبلغ مدى عظمته، ولم ينكشف لها الجلال على حقيقته، لذا فهم أدركوا أن لولا السماح لهذا الانسان القاصر الفقير بالوقوف في ساحة الذكر والمناجاة لما كان مؤهلاً لنيل هذا الشرف ولما كان محلاً للتقديس والتنزيه اذ ما عسى أن يبلغ الانسان باحاسيسه وعقله وعباراته حين يناجي بارئه وخالقه بقوله: أنت عظيم، وأنت قدوس، وأنت رحمن، فالحق كما وصفـه النبي الامينبقوله:(لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك). أو كما عبر الامام عليعن هذا المعنى بقوله :(كَلَّ دون صفاته تحبير الصفات، وضلَّ هناك تصاريف اللغات) .
أو كما عبر الامام علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وهو يردد في مناجاته:
(إلهي لولا الواجب من قبول أمرك لنزهتك من ذكري إيّاك، على أنّ ذكري لك بقدري لابقدرك، وماعسى أن يبلغ مقداري حتى أجعل محلاً لتقديسك، ومن أعظم النعم علينا جريان ذكرك على ألسنتنا، وإذنك لنا بدعائك وتنزيهك وتسبيحك، إلهي فالهمنا ذكرك في الخلاء والملاء، والليل والنهار، والاعلان والاسرار، وفي السرّاء والضرّاء، وآنسنا بالذكر الخفي، واستعملنا بالعمل الزكي، والسعي المرضي، وجازنا بالميزان الوفي .
إلهي بك هامت القلوب الوالهة، وعلى معرفتك جمعت العقول المتباينة، فلا تطمئن القلوب إلاّ بذكراك، ولا تسكن النفوس إلاّ عند رؤياك، أنت المسبّح في كل مكان، والمعبود في كل زمان، والموجود في كل أوان، والمدعو بكل لسان المعظم في كل جنان، واستغفرك من كل لذة بغير ذكرك، ومن كل راحة بغير أنسك، ومن كل سرور بغير قربك، ومن كل شغل بغير طاعتك .
إلهي أنت قلت وقولك الحق :يا أيّها الذين آمنوا اذكروا الله ذِكراً كَثيراً، وسبحوه بُكرةً وأصيلاً وقلت وقولك الحـق :فاذكروني اذكركُم فامرتنا بذكرك، ووعدتنا عليه ان تذكرنا تشريفاً لنا وتفخيماً وإعظاماً، وها نحن ذاكروك كما أمرتنا، فانجز لنا ما وعدتنا، يا ذاكر الذاكرين، ويا أرحم الراحمين .
وإذن فليس ذكر الانسان للهإحساساً عائماً، ولا عملاً مقطوع الصلة والجذور بالسلوك والمواقف العملية للانسان، بل للذكر آثاره ومردوداته الايجابية البناءة على نفسية الفرد وعلاقاته ومواقفه، فمن أولى نتائجه وآثاره الاحساس بالسعادة والطمأنينة النفسية : الَّذينَ آمنوا وتَطْمئِنُّ قُلُوبُهم بِذِكرِ اللهِ ألا بِذِكرِ اللهِ تَطمَـئِنُّ القُلـوب (الرعـد/28) .
ومن آثار هذه العبادة والعلاقة المخلصة أيضاً هو شعور النفس بوجود الله الدائم وعدم نسيانها له . فالانسان الذاكر يرى اللهمعه في كل عمل يقوم به، ويحس بوجوده في كل آن ومكان يعيش فيه، حتى ليرى اللهقائما في كل شيء ومع كل شيء . وهاتان النتيجتان هما ظاهرة طبيعية للذكر الخفي المستبطن في النفس، وإحساسها بوجود اللهأما الذكر الظاهر فله أيضاً مظاهره، وصور التعبير عنه، فهو ترجمة لخلجات النفس، وأحاسيس الفكر وأشواق الروح، باستعمال الكلمة والعبارة كالمديح، والثناء، والتقديس والتسبيح، والتعظيم لله .... الخ .
لذا كانت تجربة الحب الالهي تجربة انسانية رائعة، لا يدرك ابعادها، ولا يعي مضامينها إلاّ اولئك الذين عاشوا مشاعر الاستغراق في أبدية الحب والشوق الالـهي العميق، وإلاّ اولئك الذين مزقوا حجب (الانا) وأحاسيس الانفراد فأذابوها في أبدية هذا الحب والتجرد المطلق، وعاشوا في ذهول عن عالمهم الذي مابرح يحكم قبضته، ويقوي أسوار سجنه، ويرسل شتى صنوف الاغراء والاستهواء للاستحواذ على قلب الانسان وعقله، فانطلقت تلك المشاعر التي اخصبتها تجربة الحب الالـهي من أعماق وحدتها تمزق أطر التحيز، وتهدم حصون الانانية المغلقة لتنطلق الذات الانسانية إلى عالم السعة والامتداد، باحثة عن غاية الفطرة الكبرى ـ خالق الانسان ـ مصدر الكمال، ومبعث الحب والجمال، لتعبر عن أحاسيسها، وتترجم مشاعرها، كلمات تعظيم وعبارات تقديس، محققة لنفسها حالة الحضور والانشراح الدائم بذكر اللهوالثناء عليه .
فهو المعبود الذى لا يغيب ذكره، والالـه الذي لا تغرب عن النفس معاني وجوده، فصفاته وافاضات حبه ـ بالنسبة لهؤلاء الذاكرين ـ هي النور الذي يملا آفاق البحث عن الحب في ضمير الانسان الذاكر، وهي الحقيقة التي تستعبد قلبه وعقله فيؤلّهها، فيركع، ويسجد، ويسبح بالحمد والثناء، ليعبر عن مشاعر الحب والعبودية في نفسه لله الاحد المعبود .
والانسان في رحلة البحث عن الحب الالـهي هذه ـ وهو يعبر عن علاقته بالله ـ إنما يعبر عن حقيقة هامة، تسري في أعماق كل موجود، وتطفح على وجه كل حقيقة، وهي: إن الله أحب خلقه، وزرع جذوة هذا الحب والشوق في أعماق هذا الخلق، لتكون روحاً تشوّق الكون والانسان إليه، وكلمة سر تكمن في ضمير العوالم، تتخاطب بها في مسيرة اللقاء تحت سرادق السير والاتجاه إلى الله سبحانه .
وبهذا العمق والتوجه والامتداد، كان الحب الالـهي حركة روحية، تستهدف الاخلاد إلى قرب خالق الكون، وغاية الحب في هذا الوجود، وهي من خلال مسيرها المتعالي نحو اللهتسعى لاشباع نزعة الاحساس بفقر الانسان والاستجابة لشعوره هذا نحو مصدر الكمال والافاضة على هذا الوجود المتحفز للتلقي والقبول، والباحث عن القرب والانضواء، والرافض للبعد والانفصال عن معبوده .
فهو لا يرى حقيقة سواه تستحق الاستئثار بحب الانسان واستيعاب وجهته وغايته في الحياة .
وبهذا الاحساس والشعور تبدأ مشاعر الحب الالـهي تتكاثف وتنمو في نفس الانسان، فتغدو ديناً له، وعبودية تستولي على ضميره ووعيه، وبذا يكون هذا الحب ضرباً من ضروب العبادة، ومنبعاً من منابع الخير والسلام في هذه الحياة، لاّن هذا الحب هو بداية التنارل عن (الانا المغلق) ونقطة الانطلاق في مرحلة افناء الذات والارادة الانسانية في إرادة الله ومشيئته .
وعندما ينمو هذا الاحساس في الانسان، وتترسخ هذه العلاقة - علاقة الحب والود -بين الانسان وخالقه، يبدأ ذكر اللهيعيش في نفس الانسان إشراقاً لا تغيب شمسه، وحضوراً لا ينسى وجوده، من هنا كان الذاكرون هم المقدسون اللاهجون بذكر المعبود، المشغولون بالثناء ، والمستهامون بجمال الصفات وجلال الاثار ، وكمال الذات، الذين استولى هذا الحب المقدس على نفوسهم واحتل كل مساحة ومتسع في قلوبهم، فلم يعد لغير هذا المعبود متسع، أو موقع في نفوسهم، فغدت قلوبهم عرشاً للحب ومتسعاً للشوق .
وليس هذا الحب الالـهي هو إحساس إنساني ضائع، أو طرف سائب في معادلة العلاقة بين الله وخلقه، بل هو حب متبادل بين الانسان وخالقه، ورابطة وفاء بين العبد وربه : فاذكُروني أذكُرْكُم واشكُروا لي ولا تَكفُرون (البقرة/152) .
قُل إن كُنتُم تُحِبُّونَ اللهَ فاتَّبِعوني يُحبِبْكُمُ اللهُ ويَغفرْ لَكُم ذُنوبَكُم واللهُ غَفورٌ رَحيمٌ (آل عمران/31) .
قال رسول الله يقول الله تعالى:أنا مع عبدي ما ذكرني وتحرك بي شفتاه .
ويمتاز هذا الحب الالـهي بانه حب مخلص خالد، لا يدخل في بنائه عنصر الزمان ولا تشترك في اشادته عوامل النفعية الدنيوية الزائلة، أو تعرض له عوامل الضمور والاضمحلال ، مازالت العلاقة صادقة في طرفها الانساني مستقرة في جانب الانبعاث والاتجاه البشري .
(. . . قيل الذكر ذكران : ذكر بالقلب، وذكر باللسان، وكل واحد منها ضربان، ذكر عن نسيان، وذكر لا عن نسيان، بل عن إدامة حفظ..) .
فذكر الذاكرين لله هو الاحساس بوجوده، وبدوام حضوره معهم تارة، أو تذكره بعد النسيان، والشعور بوجوده تارة أخرى .
والذاكرون الحافظون هم أولئك المستهامون بحب الله، الممتلئة نفوسهم بحقيقة وجوده، والوَلِهَة بجمال صفاته، الخاشعة لجلال آثاره، المسبحة بحمده، المقدسة له، والعاكفة على طاعته، فهم بين دائم الذكر لايغفل وذاكر اذا غفل لم يتماد بغفلته: إنَّ الّذين اتّقوا اذا مَسَّهُم طائِفٌ مِن الشَّيطانِ تَذكّروا فإذا هُم مُبصِرون .(الاعراف/201) .
اولئك الذين انساهم حب اللهأنفسهم فتوجه كل وعي وشعور فيهم نحو الاحد المعبود، فصار هذا الحب عطاء في نفس المحب، واستجابة في قلبه، لذا كان ضربا من ضروب العبادة، ومنبعاً ثراً من منابع التوجه والشوق العميق إلى الله .
ولايمكن للروح الانساني ان يطفح بالحب، أو يواصل مسيرة القرب هذه إلاّ بعد أن تتكشف له حقائق المعرفة الربانية، وتتجلى أمامه عظمة الصفات، وجمال الذات الالهية، فمع هذه المعرفة فقط يبدأ وعيه العقلي بالتفتح، وإحساسه الروحي بالتذوق ونفسه بالانشراح والتلقي . الّذينَ يَذكُرونَ الله قِياماً وقُعوداً وعلى جُنُوبِهِم ويتَفَكَّرونَ في خلق السَّماواتِ والارض رَبَّنا ما خَلقتَ هذا باطِلاً سُبحانَكَ فَقِنا عذابَ النَّار (آل عمران/191) فأولئك هم الذاكرون ، الذين لم يكن ذكرهم لله مجرد لقلقة لسان، ولا ترداد عبارات، أو تدافع ألفاظ تولد على شفاههم خاوية ميتة بل ذكروا الله عن تفكر ومعرفة، ووعي لمضامين الذكر، وتدبر لمداليل التقديس والتسبيح والثناء، فانكشفت لهم حقائق الايمان وتجلت أمامهم مظاهر العظمة الربانية، فصار ذكرهم تعبيراً صادقاً عن وعيهم الكامل لارتباطهم وتعلقهم بالله تعالى وإحساسهم بالافتقار والحاجة إلى عظيم صفاته وكمال ذاته، لذا فهم لا يزالون يثنون على هذه العظمة، ويهيمون حباً واعجاباً بتلك الصفات، متنعمين بتجربة هذا الحب والقرب، مدركين أن ما يسبحون فيه من غمرات الحب، وما يستغرق ذواتهم من أنوار القرب، وما تحمله نفوسهم من حب ومعرفة ليس إلاّ القبس من فيض سرمدي، وإلاّ الهمس من عالم الالقاء والفيض الابدي، الفيض الذي تفتحت آفاقهم المحدودة لاستقباله وقصرت وسائلهم عن الوصول إلى سعته، فلم تبلغ مدى عظمته، ولم ينكشف لها الجلال على حقيقته، لذا فهم أدركوا أن لولا السماح لهذا الانسان القاصر الفقير بالوقوف في ساحة الذكر والمناجاة لما كان مؤهلاً لنيل هذا الشرف ولما كان محلاً للتقديس والتنزيه اذ ما عسى أن يبلغ الانسان باحاسيسه وعقله وعباراته حين يناجي بارئه وخالقه بقوله: أنت عظيم، وأنت قدوس، وأنت رحمن، فالحق كما وصفـه النبي الامينبقوله:(لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك). أو كما عبر الامام عليعن هذا المعنى بقوله :(كَلَّ دون صفاته تحبير الصفات، وضلَّ هناك تصاريف اللغات) .
أو كما عبر الامام علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وهو يردد في مناجاته:
(إلهي لولا الواجب من قبول أمرك لنزهتك من ذكري إيّاك، على أنّ ذكري لك بقدري لابقدرك، وماعسى أن يبلغ مقداري حتى أجعل محلاً لتقديسك، ومن أعظم النعم علينا جريان ذكرك على ألسنتنا، وإذنك لنا بدعائك وتنزيهك وتسبيحك، إلهي فالهمنا ذكرك في الخلاء والملاء، والليل والنهار، والاعلان والاسرار، وفي السرّاء والضرّاء، وآنسنا بالذكر الخفي، واستعملنا بالعمل الزكي، والسعي المرضي، وجازنا بالميزان الوفي .
إلهي بك هامت القلوب الوالهة، وعلى معرفتك جمعت العقول المتباينة، فلا تطمئن القلوب إلاّ بذكراك، ولا تسكن النفوس إلاّ عند رؤياك، أنت المسبّح في كل مكان، والمعبود في كل زمان، والموجود في كل أوان، والمدعو بكل لسان المعظم في كل جنان، واستغفرك من كل لذة بغير ذكرك، ومن كل راحة بغير أنسك، ومن كل سرور بغير قربك، ومن كل شغل بغير طاعتك .
إلهي أنت قلت وقولك الحق :يا أيّها الذين آمنوا اذكروا الله ذِكراً كَثيراً، وسبحوه بُكرةً وأصيلاً وقلت وقولك الحـق :فاذكروني اذكركُم فامرتنا بذكرك، ووعدتنا عليه ان تذكرنا تشريفاً لنا وتفخيماً وإعظاماً، وها نحن ذاكروك كما أمرتنا، فانجز لنا ما وعدتنا، يا ذاكر الذاكرين، ويا أرحم الراحمين .
وإذن فليس ذكر الانسان للهإحساساً عائماً، ولا عملاً مقطوع الصلة والجذور بالسلوك والمواقف العملية للانسان، بل للذكر آثاره ومردوداته الايجابية البناءة على نفسية الفرد وعلاقاته ومواقفه، فمن أولى نتائجه وآثاره الاحساس بالسعادة والطمأنينة النفسية : الَّذينَ آمنوا وتَطْمئِنُّ قُلُوبُهم بِذِكرِ اللهِ ألا بِذِكرِ اللهِ تَطمَـئِنُّ القُلـوب (الرعـد/28) .
ومن آثار هذه العبادة والعلاقة المخلصة أيضاً هو شعور النفس بوجود الله الدائم وعدم نسيانها له . فالانسان الذاكر يرى اللهمعه في كل عمل يقوم به، ويحس بوجوده في كل آن ومكان يعيش فيه، حتى ليرى اللهقائما في كل شيء ومع كل شيء . وهاتان النتيجتان هما ظاهرة طبيعية للذكر الخفي المستبطن في النفس، وإحساسها بوجود اللهأما الذكر الظاهر فله أيضاً مظاهره، وصور التعبير عنه، فهو ترجمة لخلجات النفس، وأحاسيس الفكر وأشواق الروح، باستعمال الكلمة والعبارة كالمديح، والثناء، والتقديس والتسبيح، والتعظيم لله .... الخ .
لذا كانت تجربة الحب الالهي تجربة انسانية رائعة، لا يدرك ابعادها، ولا يعي مضامينها إلاّ اولئك الذين عاشوا مشاعر الاستغراق في أبدية الحب والشوق الالـهي العميق، وإلاّ اولئك الذين مزقوا حجب (الانا) وأحاسيس الانفراد فأذابوها في أبدية هذا الحب والتجرد المطلق، وعاشوا في ذهول عن عالمهم الذي مابرح يحكم قبضته، ويقوي أسوار سجنه، ويرسل شتى صنوف الاغراء والاستهواء للاستحواذ على قلب الانسان وعقله، فانطلقت تلك المشاعر التي اخصبتها تجربة الحب الالـهي من أعماق وحدتها تمزق أطر التحيز، وتهدم حصون الانانية المغلقة لتنطلق الذات الانسانية إلى عالم السعة والامتداد، باحثة عن غاية الفطرة الكبرى ـ خالق الانسان ـ مصدر الكمال، ومبعث الحب والجمال، لتعبر عن أحاسيسها، وتترجم مشاعرها، كلمات تعظيم وعبارات تقديس، محققة لنفسها حالة الحضور والانشراح الدائم بذكر اللهوالثناء عليه .
فهو المعبود الذى لا يغيب ذكره، والالـه الذي لا تغرب عن النفس معاني وجوده، فصفاته وافاضات حبه ـ بالنسبة لهؤلاء الذاكرين ـ هي النور الذي يملا آفاق البحث عن الحب في ضمير الانسان الذاكر، وهي الحقيقة التي تستعبد قلبه وعقله فيؤلّهها، فيركع، ويسجد، ويسبح بالحمد والثناء، ليعبر عن مشاعر الحب والعبودية في نفسه لله الاحد المعبود .
والانسان في رحلة البحث عن الحب الالـهي هذه ـ وهو يعبر عن علاقته بالله ـ إنما يعبر عن حقيقة هامة، تسري في أعماق كل موجود، وتطفح على وجه كل حقيقة، وهي: إن الله أحب خلقه، وزرع جذوة هذا الحب والشوق في أعماق هذا الخلق، لتكون روحاً تشوّق الكون والانسان إليه، وكلمة سر تكمن في ضمير العوالم، تتخاطب بها في مسيرة اللقاء تحت سرادق السير والاتجاه إلى الله سبحانه .
وبهذا العمق والتوجه والامتداد، كان الحب الالـهي حركة روحية، تستهدف الاخلاد إلى قرب خالق الكون، وغاية الحب في هذا الوجود، وهي من خلال مسيرها المتعالي نحو اللهتسعى لاشباع نزعة الاحساس بفقر الانسان والاستجابة لشعوره هذا نحو مصدر الكمال والافاضة على هذا الوجود المتحفز للتلقي والقبول، والباحث عن القرب والانضواء، والرافض للبعد والانفصال عن معبوده .
فهو لا يرى حقيقة سواه تستحق الاستئثار بحب الانسان واستيعاب وجهته وغايته في الحياة .
وبهذا الاحساس والشعور تبدأ مشاعر الحب الالـهي تتكاثف وتنمو في نفس الانسان، فتغدو ديناً له، وعبودية تستولي على ضميره ووعيه، وبذا يكون هذا الحب ضرباً من ضروب العبادة، ومنبعاً من منابع الخير والسلام في هذه الحياة، لاّن هذا الحب هو بداية التنارل عن (الانا المغلق) ونقطة الانطلاق في مرحلة افناء الذات والارادة الانسانية في إرادة الله ومشيئته .
وعندما ينمو هذا الاحساس في الانسان، وتترسخ هذه العلاقة - علاقة الحب والود -بين الانسان وخالقه، يبدأ ذكر اللهيعيش في نفس الانسان إشراقاً لا تغيب شمسه، وحضوراً لا ينسى وجوده، من هنا كان الذاكرون هم المقدسون اللاهجون بذكر المعبود، المشغولون بالثناء ، والمستهامون بجمال الصفات وجلال الاثار ، وكمال الذات، الذين استولى هذا الحب المقدس على نفوسهم واحتل كل مساحة ومتسع في قلوبهم، فلم يعد لغير هذا المعبود متسع، أو موقع في نفوسهم، فغدت قلوبهم عرشاً للحب ومتسعاً للشوق .
وليس هذا الحب الالـهي هو إحساس إنساني ضائع، أو طرف سائب في معادلة العلاقة بين الله وخلقه، بل هو حب متبادل بين الانسان وخالقه، ورابطة وفاء بين العبد وربه : فاذكُروني أذكُرْكُم واشكُروا لي ولا تَكفُرون (البقرة/152) .
قُل إن كُنتُم تُحِبُّونَ اللهَ فاتَّبِعوني يُحبِبْكُمُ اللهُ ويَغفرْ لَكُم ذُنوبَكُم واللهُ غَفورٌ رَحيمٌ (آل عمران/31) .
قال رسول الله يقول الله تعالى:أنا مع عبدي ما ذكرني وتحرك بي شفتاه .
ويمتاز هذا الحب الالـهي بانه حب مخلص خالد، لا يدخل في بنائه عنصر الزمان ولا تشترك في اشادته عوامل النفعية الدنيوية الزائلة، أو تعرض له عوامل الضمور والاضمحلال ، مازالت العلاقة صادقة في طرفها الانساني مستقرة في جانب الانبعاث والاتجاه البشري .